شهدت مصر توسّعاً واضحاً في النشاط الاقتصادي للجيش في أعقاب إطاحة القوات المسلحة المصرية بالرئيس الإخواني محمد مرسي في يوليو 2013، والذي تلاه ترجمة سيطرة الجيش على المشهد السياسي إلى صعود عبد الفتاح السيسي إلى مقعد الرئاسة في يونيو 2014. وقد حدا هذا بالكثير من المتابعين إلى اعتبار أن الجيش بصدد استخدام نفوذه السياسي المتزايد لجنى المزيد من المكاسب والمزايا الاقتصادية، وهو الأمر الذي درجت عليه المؤسسة العسكرية في العهود السابقة.
لطالما كان الجيش لاعباً رئيساً في الاقتصاد المصري، غير أنه، وخلافاً للوصف النمطي للجنرالات على أنهم يستغلّون نفوذ الجيش السياسي لزيادة الموارد الاقتصادية الخاضعة لهم ولتغذية شبكات المحسوبية والزبونية داخل المؤسسة فإن الدافع وراء تدخّلات الجيش الأخيرة، خاصة بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣، في الاقتصاد لم يكن تحقيق الربح أو توزيع الامتيازات، بل يبدو أن تلك التدخّلات قد تمت طبقا لحسابات سياسية تتعلق بمحاولات الجيش الدؤوبة لإضفاء الشرعية على نظام السيسي الجديد المدعوم من المؤسسة العسكرية، ووضع مصر على طريق الانتعاش الاقتصادي الذي يراه داعمو النظام ضروريا لاستقراره السياسي، بل إن ثمّة دلائل في هذا الصدد على أن نشاط الجيش الاقتصادي في بعض القطاعات كان مكلفاً لا مربحاً بالنسبة إليه أو على الأقل بلا عائد اقتصادي واضح.
تطوّر السلوك الاقتصادي للجيش
في عهد الرئيس حسني مبارك، الذي حكم مصر في الفترة من 1981 حتى انتفاضة يناير 2011، بدا أن النشاط الاقتصادي للجيش يخدم مصالحه الذاتية أكثر من أي شيء آخر سواء كمؤسسة أو كأشخاص داخلها. كانت هناك بعض الأمثلة على تدخّلات اقتصادية للجيش مدفوعة بتصور ما للمصلحة العامة، حسبما يتوخاه الجنرالات بالطبع، وليس بدافع الربح. على سبيل المثال، عارض الجيش خصخصة إنتاج وتوزيع الكهرباء لأسباب تتعلّق بالأمن القومي رغم أن الجيش لم يكن يحمل استثمارات في ذلك القطاع وقتها. وهناك مثال آخر تمثّل في تدخّل الجيش في توزيع الخبز المدعوم في العام 2008، وسط أزمة غذاء متصاعدة مغبة أن تسهم في حدوث اضطرابات اجتماعية.
مع ذلك، وكقاعدة عامة، شهدت الفترة الطويلة التي أمضاها المشير محمد حسين طنطاوي كقائد عام للقوات المسلحة، 1993-2012، نوعاً من النشاط الاقتصادي للجيش يستهدف تحقيق الربح أكثر من أي شيء آخر. قد يكون أحد أسباب ذلك أن الجيش لم يكن مضطراً للتعامل مع المهمّة الشاقة المتمثّلة في تجديد سلطة الدولة واستعادة النظام العام، كما هو الحال الآن. بقدر ما كان مجرد عضو مهم في تحالف حاكم عريض تقع مسؤولية إبقائه وإدارته على حسني مبارك ورجالات الأمن والحزب الوطني الحاكم آنذاك.
منذ منتصف العام 2013، أصبحت الظروف مختلفة بشكل جذري، وكذلك الحال بالنسبة إلى السلوك الاقتصادي للجيش. إذ يشارك الجيش بصورة كبيرة في مجالات توليد الطاقة والبناء والبنية التحتية. ولايبدو أن للعديد من هذه المشروعات، بما في ذلك قناة السويس الجديدة، عائداً اقتصادياً واضحاً على الجيش. بقدر ما ينظر إليها على أنها مهمة بالنسبة إلى شرعية وشعبية النظام الحالي المدعوم من الجيش. وهو ما يرجح غلبة الدوافع السياسية على أهداف الربح.
تمويل خطة الكهرباء لعامي 2015-2016
يشارك الجيش ـ من خلال الهيئة الهندسية ـ بصورة كبيرة في الجهود الرامية للتغلّب على مشكلة انقطاع التيار الكهربائي قبل حلول الصيف. وقد وقّعت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة اتفاقاً مع شركة "جنرال إلكتريك" لإنشاء 12 توربيناً ثمانية منها في أسيوط وأربعة في غرب دمياط لتوليد 1200-1300 ميجاواط خلال العام المقبل.
ولكي يضمن أن تكون محطات توليد الكهرباء جاهزة للعمل في غضون عام فحسب، فقد سلّم الجيش الدفعة الأولي من المصروفات لشركة "جنرال إلكتريك". (وفقاً لمعلومات غير مؤكّدة بلغت الدفعة الأولى 25 في المئة من التكلفة الإجمالية). وهذا يختلف بشكل ملحوظ عن الممارسات السابقة. ففي عهد مبارك، اعتمدت الحكومة أساساً على القروض التنموية من البنك الدولي أو من البنك الأفريقي للتنمية. أما الآن، ولأن الجيش يبدو في عجلة من أمره لإيجاد حلّ سريع لمشكلة انقطاع التيار الكهربائي، فقد مضى قُدُماً وقام مباشرة بتمويل المرحلة الأولى قبل نقل المشروع إلى خزانة الدولة. وليس من الواضح ما إذا كان يتوقّع أن تسدّد خزانة الدولة الدفعة الأولى التي دفعها الجيش.
علاوة على ذلك، فقد سلّم الجيش الاتفاقات التي وقّعها إلى وزارة الكهرباء، وبالتالي تنازل عن أي مكاسب مستقبلية كان يمكن أن يحصل عليها من تشغيل محطات الكهرباء الجديدة. لذلك قدم الجيش، في هذه الحالة، التمويل القصير الأجل لخزينة الدولة بدل الحصول على الموارد منها.
مشروع قناة السويس الجديدة
منذ إطلاقه في الصيف الماضي، لعب الجيش من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة دوراً محورياً فيما يسمى مشروع قناة السويس الجديدة، بما في ذلك تنفيذ وتنسيق والإشراف على عملية الحفر. ويهدف المشروع إلى شق ٧٢ كيلومترا لضمان المرور المزدوج في القناة بما ينعكس إيجابا على عوائد مرور السفن في القناة بنحو ٢٥٩٪ طبقا لتقديرات الهيئة العامة لقناة السويس بحلول سنة ٢٠٢٣ أي بما يعادل زيادة العائد السنوي من خمسة مليارات دولار إلى نحو ١٣ مليارا. وقد عمدت الحكومة وأجهزة الإعلام إلى تصوير المساهمة في تمويل المشروع على أنه عمل وطني بجانب كونه ذا أهمية اقتصادية.
مع مرور الوقت، أظهر الجيش استعداداً متزايداً لإشراك شركات القطاع الخاص بهدف تسليم المشروع بسرعة أو بسبب الخبرة التي تتوفر عليها. ولكي يتم إنجاز المشروع في سنة واحدة، تم جلب أكثر من 70 شركة من القطاع الخاص. كل تلك الشركات مصرية، ومنها شركات مقاولات كبيرة من القطاع الخاص مثل أوراسكوم وأيوبكو. ومما يلفت الانتباه أن تطوراً مماثلاً حدث بشأن خطة توليد الكهرباء، حيث إن شركتي السويدي وأوراسكوم المملوكتين للقطاع الخاص شريكتان في بناء التوربينات في أسيوط ودمياط.
وهكذا فبدلاً من مزاحمة شركات القطاع الخاص المنافسة أظهر الجيش استعداده للتخلّي عن جزء من حصته، وبالتالي عن جزء من العائد الاقتصادي المحتمل، بغية الانتهاء من إنجاز مشروع قومي في الوقت المحدّد، في الوقت الذي يُنظَر فيه إلى هذا المشروع باعتباره ضرورياً لإضفاء الشرعية على نظام السيسي.
مشروع بناء مليون وحدة سكنية
في آذار/مارس 2014، وقبل أن يتولّى السيسي الرئاسة رسمياً، وقعت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة اتفاقاً مبدئياً مع شركة الإنشاءات الإماراتية "أرابتك" بهدف توفير مليون وحدة سكنية للمستهلكين ذوي الدخل المتوسط خلال خمس سنوات.
وفقاً للاتفاق بين شركة "أرابتك" والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، فقد وعد الجيش بتقديم الأرض للشركة مجاناً لبناء مليون وحدة سكنية في ثلاث عشرة مدينة مصرية. ومع ذلك، لم يحدث شيء بعد ذلك حيث توقّف المشروع وسط مشاكل تتعلق بالمفاوضات الخاصة به كما ذكر. وفي الأول من آذار/مارس 2015، قال رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة اللواء كامل الوزير إن أسلوب أرابتك "لم يتماشَ مع الشروط التي وضعتها الدولة المصرية. وإذا كان المستثمر يرغب في دخول السوق المصرية، ينبغي عليه أن يجلب المال من الخارج وليس من البنوك المصرية. ولابدّ من تنفيذ المشروع بعمالة مصرية وبخامات مصرية. لم تكن هذه الشروط متوافرة وهذا هو السبب في أن المشروع توقف مؤقتاً".
بحلول نهاية العام 2014، أصبحت وزارة الإسكان هي التي تحاور الشركة الإماراتية بدلًا من الجيش. يمكن اعتبار هذا بمثابة حالة من تطبيع الأحوال داخل الجهاز الإداري للدولة، حيث يتم تسليم المشاريع التي بدأها الجيش إلى البيروقراطية المدنية، كما كان الحال مع برنامج توليد الكهرباء.
في نيسان/أبريل 2015، وافقت الحكومة المصرية أخيراً على مشروع "أرابتك" وأعلن وزير الإسكان أنه سيتم توقيع الاتفاق النهائي قريباً. وهو الأمر الذي لم يتحقق إلى حين كتابة هذه السطور.
على الرغم من ندرة المعلومات المتوفرة عن المشروع الكلي، تشير التفاصيل المتاحة إلى أن الجيش اختار الانخراط في مشروع الإسكان بسبب النزعة الشعبوية وليس بهدف تحقيق الأرباح. فقد طغت الرغبة في توفير مساكن بأسعار معقولة للفئات ذات الدخل المتوسط على احتمالات تحقيق الربح، والتي تعتبر بطبيعة الحال أمرا قيّماً بالنسبة إلى الجمهور المؤيد للسيسي ولجذب رؤوس الأموال الأجنبية.
ترجمة الأقوال إلى أفعال
تبين هذه الأمثلة أنه سيكون من قبيل التبسيط المخل افتراض أن تدخّل الجيش المكثّف في الاقتصاد المصري هو مجرّد سعي لتحقيق أرباح ومكاسب بل إنه يبدو أن الجيش مستعد وربما قادر على إخضاع المكاسب الاقتصادية للمآرب السياسية. المتمثلة في دعم النظام السياسي الجديد.
ففي واقع الأمر يمكن الدفع بأن إقدام الجيش على خلع الرئيس الإخواني محمد مرسي في يوليو ٢٠١٣ على الرغم من التنازلات الكبيرة التي قدمها الإخوان للمؤسسة العسكرية في دستور ٢٠١٢، والتي شملت تأمين استقلال الجيش عن السلطة المدنية المنتخبة حديثا وقتها، كما شملت ضمانات للمزايا الاقتصادية التي تتمتع بها المؤسسة وأفرادها وعلى الرغم من هذا كله فإن تغاضي الإخوان عن إمبراطورية الجيش الاقتصادية لم تشفع لهم كثيرا لمنعه من الانقلاب عليهم في خضم أزمة صيف ٢٠١٣، وهو ما يدل على أن موقف الجيش يتحدد بعوامل سياسية غير المكاسب الاقتصادية المباشرة، كرؤية الجنرالات لمفهوم معين للأمن القومي وللتحالفات الجيوإستراتيجية التي تجمعهم بفاعلين إقليميين ودوليين، وكلها عوامل من التناقض ما قلل من مساحة التوافق بينهم وبين الإخوان.
منذ خريف 2013، بدأ الجيش بالاستفادة من قوته الاقتصادية الكبيرة بهدف تحقيق الاستقرار السياسي في مصر في ظل حكم السيسي، من خلال الاعتناء بفئات اجتماعية معيّنة، في محاولة للتأكد من أن "المشاريع العملاقة" يتم الانتهاء منها في المواعيد النهائية المحدّدة، وإعادة إطلاق الاقتصاد بعد أربع سنوات من الركود. وهذا لايعني بحال القبول بدعاية النظام القائلة بأن تدخّل الجيش في الاقتصاد هو فقط من أجل الصالح العام. وباعتبار الجيش هو المؤسّسة التي خرج منها الرئيس الحالي، يظهر أن الجيش يربط مستقل دوره السياسي بنجاح حكومة السيسي، وهو يعمل الآن وفقاً لهذا الاعتبار.
خلاصة الأمر إن هناك قرائن على أن دور المؤسسة العسكرية المصرية قد بدأ في التحول تدريجيا من الدور التقليدي كشريك في التحالف الحاكم والذي استمر لعقود في ظل حكم السادات ومبارك ومرسي إلى كونها الطرف الحاكم، والمسئول بشكل مباشر على إعادة التأسيس للدولة السلطوية بعد فترة غير مسبوقة من الاضطراب الاجتماعي والسياسي، وهو ما يسهم في إعادة رسم العلاقة بين السياسة والاقتصاد لدى هذه المؤسسة العتيدة.
[اضغط/ي هنا للاطلاع على النسخة الانجليزية]